تعد مؤلفات السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر ودراساته لتحولات المجتمع الأوروبي الحديث من أعمق التحاليل والأبحاث، وأكثرها اقتدارا على التعمق في فهم دلالة وأبعاد النقلة التاريخية التي أنجزتها أوروبا من النمط الإقطاعي إلى النمط الرأسمالي. بل إن دراساته لخصائص الوعي الحداثي ونمطه المجتمعي جعله بحق أكثر معاصرة من غيره من مؤسسي علم الاجتماع، وهذه المعاصرة يشهد بها المفكر الفرنسي ريمون آرون في ختام تحليله لمؤلفات فيبر في كتابه “مراحل الفكر السوسيولوجي” .
لقد امتازت الرؤية السوسيولوجية لفيبر بانتباهها إلى قيمة المكون الديني ودوره في عملية التغيير والتحول، الأمر الذي جعله في تقابل وخلاف مع الأطروحة الماركسية على نحو ضدي، لأنها كانت تجعل الدين وغيره من المكونات الثقافية بناء علويا تابعا ومشروطا بالبنية الاقتصادية التي تشكل الأساس التحتي للمجتمع. ولهذا كان اسم ماكس فيبر دائما يحضر في النقاشات السوسيولوجية- وخاصة خلال منتصف القرن العشرين – حيث كانت الأطروحة الماركسية مهيمنة على المناخ الثقافي وفارضة نفسها كمنظور منهجي يفسر صيرورة الانتقال إلى الرأسمالية وفق قانون جدلي مادي يرتكز على تقسيم المجتمع إلى بنية علوية (الثقافة) وبنية تحتية (الاقتصاد)، جاعلا من البنية التحتية المحدِّد الحتمي.
إن الأطروحة الماركسية جعلت المحدد المادي هو منطلق التغيير وفاعله، لكن ماكس فيبر سيقدم تفسيرا مخالفا لهذا التصور المادي، حيث سيفسر الانتقال إلى الرأسمالية بالمعتقد الديني، وذلك في كتابه “الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية”. وفي هذا السياق تحضر مقارنة السوسيولوجي الفرنسي المعاصر بيير بورديو بين هذين المفكرين الألمانيين قائلا: “ما لم يره كارل ماركس رآه فيبر”. وإذا أردنا تحديد هذه المقارنة يمكن أن نقول : إذا كان كارل ماركس يهتم بتأثير الرأسمال الاقتصادي على الفكر، فإن فيبر سيهتم بتأثير الرأسمال الثقافي في الاقتصاد. وهو قلب تام للأطروحة الماركسية. بيد أن فيبر لم يسقط في القول بحتمية العلاقة بين الدين والنظام المجتمعي. بل يرى العلاقة بينهما علاقة انسجام وتناسب لا علاقة سببية حتمية.
إن هذه الرؤية إلى نشأة الحداثة الأوروبية عند فيبر ترتبط بطبيعة رؤيته إلى الإنسان ذاته. فهو يرى أن الكائن الإنساني لا تحركه دوافع مادية فحسب، بل ثمة دوافع ثقافية أيضا لها بالغ التأثير في وعيه وسلوكه في الحياة. لهذا سيهتم فيبر، في دراسته للتحول المجتمعي الأوروبي من النمط الإقطاعي إلى النمط الرأسمالي، بتحديد الدوافع والمؤثرات الثقافية الفاعلة في إنجاز هذا التحول، فانتهى إلى أهمية العامل الديني. حيث استحضر تلك الملحوظة التاريخية المتمثلة في كون الرأسمالية نشأت أول مرة في الشق الأوروبي البروتستانتي، فكان لا بد أن يستفهم عن سبب اختصاص الدول الأوروبية البروتستانتية بظهور الرأسمالية فيها قبل غيرها. لتفسير ذلك يبحث فيبر عن الروح والوعي الرأسمالي، فيجده ثاويا في النزعة البروتستانتية الكالفينية. فالنزعة الطهرية الكالفينية خالفت الكاثوليكية في تقديرها للفقر، حيث حفزت الإنسان على العمل وجعلته طقسا تعبديا واجبا، إلى درجة أنها شرطت الفوز في الآخرة بالنجاح الاقتصادي في الدنيا. كما أن الكالفينية كان لها اجتهادات فقهية (خاصة في قبولها بالفائدة) يسرت الطريق أمام نمو وانتعاش التعاملات المالية، ونمو رأس المال وتسييده على باقي القوى الاجتماعية. وهذا المرجع التصوري الكالفيني شكل الدعامة النظرية لتشكيل وتطور الوعي الرأسمالي وانطلاقه الفعلي في القرن السادس عشر حسب فيبر.
وإضافة إلى هذا التحديد للأصل النظري الاعتقادي لانبثاق الرأسمالية، فإن فيبر في كتابه “اقتصاد ومجتمع”- سيذهب، على مستوى تحليله لخصائص هذا المجتمع الحداثي، إلى اختزالها في مجموعة من السمات نذكر منها: العقلنة والبيروقراطية. بالنسبة للخاصية الأولى يمكن أن نستحضر هنا القراءة الهيجيلية للديكارتية بوصفها أساس الحداثة، أي ذلك الأساس الذي يتمثل في العقل. بيد أن هذه العقلنة التي سيهتم بها فيبر لتحديد الوعي الحداثي، ليست مختزلة عنده في العقلانية الفلسفية ومنحاها المنهجي التأملي، بل يوسع من مدلولها لتستوعب أيضا الوعي والمنهج العلمي التجريبي.
في تحليله للعقلنة كإطار مفهومي ناظم للوعي والسلوك الحداثي يرى فيبر أنها رسمت تحولا هائلا في ثقافة الإنسان، حيث أزالت عن العالم صبغته السحرية وحولته إلى مادة قابلة للإدراك والتحويل والتنبؤ. لكن إزالة الطابع السحري عن العالم شكلت في المقابل استبعادا لأشكال وأنماط التفكير الأسطوري والديني، وهو ما أسس لنمط جديد في فهم العالم يقوم على الرؤية العقلانية “العلمية”. بيد أن فيبر، رغم إعلائه من شأن العقلنة، يعترف في ذات الوقت أن هيمنة هذا النمط من الوعي أدت إلى أزمة المعنى. وهي إشارة ذكية إلى مكمن أزمة الاجتماع والحضارة الأوروبية بعد تحولاتها الحداثية.
أما الخاصية الثانية فهي البيروقراطية. وفي سياق المقارنة يمكن القول إنه إذا كانت العقلنة تنظيما لفهم العالم، فإن البيروقراطية هي الآلية المنهجية لتنظيم الدولة الحداثية. وعلى هاتين الآليتين يتأسس المجتمع الحداثي حسب فيبر. إن الأطروحة “الفيبرية” لا تزال تحتفظ بكثير من قيمتها المنهجية في تحليل وفهم الحضارة الأوروبية، ونحن نرى في توكيد فيبر على العقلنة كمحدد للوعي والسلوك الحداثي، ثم تلميحه إلى أن هيمنة هذا النمط من الرؤية والتفكير أدت إلى أزمة المعنى وخواء الثقافة، اختزالا لمصدر قوة الحداثة ومكمن إفلاسها في آن واحد.