محمد الشرقاوي يكتب ..العلم ابن بيئته.. و”علم التخلف” أيضا ابن بيئته..!
صدر تصنيف شنغهاي لأفضل الجامعات في العالم. وتتصدر جامعة هارفارد قائمة الترتيب للعام العشرين على التوالي، تليها جامعة ستانفورد في المرتبة الثانية. وارتقى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) إلى المرتبة الثالثة. ومن بين أفضل الجامعات العشر الأخرى: كامبردج (الرابعة)، بيركلي (5)، برينستون (6)، أكسفورد (7)، كولومبيا (8)، معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (9)، وشيكاغو (10. باختصار، جامعتان بريطانيتان، والبقية أمريكية. والأهم أنّ جميعها أنجلوسكسونية، وليست فرنكوفونية ولا ألمانية، وإنْ جاءت جامعة Paris-Saclay الفرنسية في المرتبة 16، وجامعة السوربون في المرتبة 43.
قبل عام، أعلن مؤشّر كيو إس QS Index، الذي تصدره مؤسسة Quacquarelli Symonds منذ 1990، قائمة أفضل الجامعات في العالم من أصل 1000 في شتّى القارّات. وجاءت الجامعات الأمريكية والبريطانية والسويسرية في المرتبات العشر الأولى على التوالي: معهد ماساتشوستس، ستنفرد، هارفارد، معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، أوكسفورد، المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا، كمبردج، كلية إمبريال في لندن، شيكاغو، وكلية الجامعة في لندن.
نبوغُ.. واحتضارُ العقل المغربي
غابت الجامعات المغربية من هذه التصنيفات كليّة، فيما حضرت 42 جامعة خليجية ومشرقية بين المرتبة 143 والمرتبة 964. ويمثل هذان المثالان مؤشّرا آخر على ازدياد الانحدار في المستوى الأكاديمي والفكري في مغرب ضياع البوصلة وتجويف البحث العلمي من مقومات الاستقلال ورصانة الاجتهاد. ولا يشاكس أي عاقل مع حقيقة أن ضعف الجامعة مؤشّر ضمني على تراجع شامل في بقية المجالات الحيوية. فإن وهنت الجامعة، تكون البلاد في مرحلة احتضار معرفي واستراتيجي.
لكن، لا يلغي هذا الانكماش المعرفي ظلال مرحلة التنوير والبناء التي استندت إلى منظومات معرفية ومناهج معاصرة، على غرار الدول التي جمعت بين تطوير المعرفة وبناء الحداثة وتحقيق التنمية، عقب تأسيس جامعة محمد الخامس في الرّباط عام 1957، بعد عام واحد من نيل الاستقلال، ثم جامعات أخرى في مراكش وفاس والدار البيضاء ومدن أخرى. وانضمّ إلى التدريس فيها عدد من خريجي الجامعات الفرنسية والمشرقية قبل أن يظهر جيل آخر تخرّج في أحضانها وبين قاعاتها ومكتباتها وحلقات النقاش فيها. فكان انضمام محمد عابد الجابري، أوّل خريجي قسم الدكتوراه في الفلسفة عام 1970، إلى صفوف الأساتذة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط لحظة تاريخية جسدت حيوية الفكر ونشاط الأكاديميا في المغرب. وظهر مثقفون آخرون خدموا الجامعة المغربية ويحظون بتقدير خاص في ذاكرة الطلاب والرأي العام في الداخل والخارج.
كتب أحد الأصدقاء متسائلا “في أيّ زمن عرفتْ جامعاتنا النبوغ؟”. فرددتُ بالقول “كانت الجامعة المغربية متنوّرة ومسؤولة عن روح المجتمع ومساءلة السياسة في حقبة كان محمد عزيز الحبابي يفكّر، ومحمد عابد الجابري يفصّل ويُوصل، وفاطمة المرنيسي تسأل، وعزيز بلال يقيس، ومحمد جسوس يتجرّأ وغيرهم ممن أوصوا أنفسهم على حرمة البحث العلمي وشجاعة المعرفة.”
موسم الكآبة عند التأمل من بعيد!
كلما صدرت هذه التقارير السنوية لمؤشر شنغهاي وغيره كل صيف، تصيبني مشاعر الغبن والانكماش المعنوي، وأنا أتأمل حال الجامعات المغربية وخط انحدارها في العقود الثلاثة الماضية. وأحتاج لأكثر من كوب زعتر أو أعشاب مغلية أخرى، أو ربّما لرفّ كامل من السّوائل في الصيدلية، للعلاج من عسر الهضم الحادّ لحقيقة أنّ لا جامعة مغربية تأتي في المراتب المائة الأولى، ولا الخمسمائة، ولا الألف، ولا الألف وخمسمائة الأولى، بل رَمَتْها المعضلاتُ المنهجية والإدارية والبنيوية وتآكل أخلاقيات البحث الأكاديمي من قبل بعض سماسرة المعرفة إلى مراتب “وراء الشمس”.
تعاني الجامعة المغربية حيرة بيداغوجية ومتاهة إدارية وانكماشا فكريا، ضمن دائرة المتاهة الكبرى العالقة بفعل ضبابية الصورة لدى الرباط بشأن أحقية البحث العلمي وأهميته في تحديد السياسات العامة وبلورة التنمية والاستراتيجية الوطنية والتطور الشامل. وقد نبّه الملك محمد السادس قبل اثني عشر عاما إلى أن “على الجميع أن يستشعر أن الأمر لا يتعلق بمجرد إصلاح قطاعي، وإنما بمعركة مصيرية لرفع هذا التحدّي الحيوي.. سبيلنا إلى ذلك الارتقاء بالبحث والابتكار وتأهيل مواردنا البشرية، التي هي رصيدنا الأساسي لترسيخ تكافؤ الفرص، وبناء مجتمع واقتصاد المعرفة، وتوفير الشغل المنتج لشبابنا.”
ولوّحت بعض البرامج الإصلاحية للتعليم العالي، مثل إصلاح 2003 وإصلاح 2014 والبرنامج الاستعجالي، بأهمية تدارك تراجع دور الجامعة. في الوقت ذاته، توصلت الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التعليم والتكوين والبحث العلمي في تقريرها عام 2018 إلى أن نظام الإجازة-الماستر-الدكتوراه، بعد مرور ست عشرة سنة تقريبا على تطبيقه، “لم يخضع بعد لأي تقييم وطني حقيقي.” ويكون من الأجدى عقد بعض المقارنات الموضوعية مع دول من صنفنا وحجم تحدّياتنا وأحجام أخرى ومآل البحث العلمي فيها خلال العقود الخمسة الماضية:
كوريا الجنوبية خصّصت هذا العام نسبة 4.35 في المائة (92.25 مليار دولار)،
إسرائيل: نسبة 4.4 في المائة (15.19 مليار دولار)،
قطر: 2.5 في المائة (9.23 مليار دولار)،
فنلندا: نسبة 3.50 في المائة (9.51 مليار دولار)،
الولايات المتحدة: 2.84 في المائة (609.69 مليار دولار).
في المقابل، خصص المغرب 35.1 مليار درهم للجيش عام 2019 بزيادة 2.3 في المائة عن الميزانية العسكرية لعام 2018 (34.3 مليار درهم). فاستحق بذلك المرتبة السادسة والعشرين بين دول العالم بتخصيصه نسبة 3.26 في المائة من الدخل القومي الخام للميزانية العسكرية الجديدة. وقد يتناسى المسؤولون أن تمويل البحث العلمي ليس من قبيل الترف أو الكماليات، بل أصبح سلاحا في يد الحكومات والمنظمات الدولية في رسم سياساتها الداخلية ومواجهة تحدياتها الخارجية. فلِمَ يبق المغرب أسير مفهوم القوة الصلبة وتكديس العتاد دون الانفتاح على الاستراتيجيات الجديدة للقوة الذكية والقوة الناعمة وأخواتهما!
لماذا تفوّقت جامعات أمريكا؟
يعتقد أغلب المسؤولين والنخب السياسية في الرباط أن العمل الأكاديمي والبحث العلمي مجرّد ترف أو من قبيل الكماليات الأكاديمية فوق نشاط الجامعة، أو أنه إنفاق إضافي عبثي، لأن رجل السياسة والوزير والنائب في البرلمان ليسوا بحاجة لهؤلاء “المتفلسفين” أو “الطوباويين” الذين لا يفقهون السياسة ولا صنعة الحكم حسب تصوّرهم.
تعالوا نستحضر نقاشا بين الكاتب البريطاني ستيف واترز Steve Waters الذي طرح السؤال “كيف يغيّر المرء العالم؟”. فقال “هناك عدة طرق بديهية للتغيير مثل الاستيلاء على السلطة أو التمتع بثروة طائلة، أوعن طريق الانتخابات. وهناك أيضا طرق مختصرة للتغيير مثل الإرهاب أو تأسيس مركز تفكير”. فردّ عليه روهنتون ميدورا Rohinton Medhora مدير مركز تجديد الحوكمة الدولية، خلال نقاش دار في جامعة الأمم المتحدة في طوكيو عام 2015، بسؤال آخر: ما المنفعة من وجود مراكز التفكير قائلا: “إنها تدرّج التأثير إلى الأمام بكل ما تحمل العبارة من معنى، واستمالة التغيير من خلال نشر الأفكار وتشبيك العلاقات مع المؤسّسات. والمهم ليس أن يكون مركز البحث يمينيًا أو يساريًا أو ليبراليًا بقدر ما ينبغي أن يستند النقاش فيه إلى الدليل والبرهان.”
قبل أعوام، قرّر أستاذ الفلسفة السياسية مايكل ساندل في جامعة هارفارد تقديم محاضراته في مادة “العدالة” مجانًا عبر الانترنت وشاشات التلفزيون، ليتابعها الطلاب في الهند والصين واليابان وجنوب أفريقيا وبقية دول العالم. فأصبح “الشخصية الأجنبية الأكثر تأثيرا في الصين” حسب تصنيف مجلة “تشاينا نيوزيوك” قبل عامين. هكذا تتداخل المعرفة عضويا مع القوة، ويتحرك البحث العلمي في تكريسها عبر الأجيال والجغرافيات وفي ثنايا العلاقات بين الدول، مما يزكّي مقولة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو حول جدلية المعرفة والقوة.
نعود إلى رحاب الجامعىة المغربية حيث تكثر المفارقات بين خليط غريب من الأساتذة الذين يتمسك بعضهم باستقلال ورصانة البحث العلمي، وبعضهم الآخر يستخدم المنصب وما ينطوي عليه للتقرب زلفى من دوائر معينة في الرباط. في المقابل، إذا ركزنا على مبدأ صيانة الصرامة العلمية لمعرفة سر تفوق الجامعات الأمريكية، يقول سيتفن بْرِيتْ أستاذ السوسيولوجيا والسياسات العامة في جامعة كاليفورنيا-ريفرسايد الأمريكية إن “نجاح التعليم العالي في الولايات المتحدة يتجاوز نجاح عشرين جامعة أمريكية تهيمن على تصنيف أفضل الجامعات في العالم، بل “أصبحت الغالبية العظمى من مؤسساته من أفضل 200 جامعة تتولى البحث العلمي أقوى من أي وقت مضى، وقد أظهر النظام الأمريكي برمّته مرونة مذهلة بين مراحل الركود ومراحل التوسع على حد سواء،” كما يقول في كتابه بعنوان Two Cheers for Higher Education: Why American Universities Are Stronger than Ever — And How to Meet the Challenges They Face “هُتافان للتعليم العالي: لماذا أصبحت الجامعات الأمريكية أقوى من أي وقت مضى، وكيف تواجه تحدّياتها؟” حول عن تقييم نظام التعليم الجامعي الأمريكي منذ عام 1980.
توصّل الباحث إلى أنّ البنيات والغايات التقليدية لدى الجامعات الامريكية تهدف إلى إحراز نتيجتين: أوّلهما، توسيع المعرفة بشكل أساسي ليس في التخصصات المتداولة فحسب، بل في التقاطعات بينها. وثانيهما، تطوير القدرات المعرفية للطلاب وتعميق معرفتهم بموضوع الدراسة. وشهدت الجامعات حركتيْ تغيير اجتاحتاها بقوة كبيرة، تمثلت إحداهما في دفع الأبحاث الجامعية نحو تعزيز التنمية الاقتصادية من خلال اختراع تقنيات جديدة ذات إمكانات تجارية. أما الحركة الثانية فاستهدفت دفع الجامعات للعمل كأدوات للإدماج الاجتماعي، وتوفير الفرص للمجموعات المهمشة، بما في ذلك النساء والأقليات العرقية. كان هذا التوجه بإيعاز من قبل أطراف خارجية مثل منتدى التعليم العالي للأعمال، والمؤسسات الخيرية الكبرى، ودوائر الحرم الجامعي التي استفادت من تكريس تلك القضايا الاجتماعية.
مفارقات نووية مغربية
أعود إلى تحديات الجامعة وتحديات البحث العلمي في المغرب، فيصيبني الذهول من هول المفارقات المتعددة، وتكشف إحداها الفرق بين ميزانية هزيلة تخصصها حكومات الرباط للبحث العلمي كانت بقيمة مليار و484 مليون درهم عام 2020. في المقابل، صنع فوزي لقجع صاحب “الانتصارات المؤجّلة” و”الهزائم المبررة” لنفسه مملكة رياضية مستقلّة ينفق فيها أكثر من 82 مليار سنتيم. فمن يأخذني، يا سادة يا كرام، على قدر عقلي وقلة خبرتي عندما أسأل: كيف تحظى كرة القدم في المغرب وحدها، دون بقية الرياضات، بما هو 54 ضعفا من ميزانية البحث العلمي؟؟
عدتُ أقرأ عن مفارقة أخرى ضمن دراسة نشرتها قبل عامين بعنوان “الجامعة المغربية بانتظار السكتة القلبية”، واستوقفتني هذه العبارة: “خاطب عالم الاجتماع محمد جسوس المؤتمر الوطني الرابع للطلبة الاتحاديين قبل واحد وثلاثين عاما، مدافعا عن حرمة الجامعة بقوله “لا خير في المجتمع المغربي إذا لم يراهن على الجامعة المغربية.” وشدّد على أنّ المغرب يجازف باتباع “سياسة على صعيد التعليم والثقافة والتأطير الفكري والإيديولوجي، تحاول خلق جيل جديد لم نعرفه في المغرب: جيل الضبوعة.”
قد ينزعج كثيرون من عبارة “جيل الضبوعة”، وقد يقاومون التجريح في معنويات المغاربة الذين لا يطالعون سوى نسبة 0.79 في الكتاب من كتاب واحد في العام كلّه. وتظل الحقيقة أنّ لا ذكر لمغرب ولا لنبوغ مغربي في هذه الاحتفاليات السنوية بأفضل الجامعات في العالم”
هل يحضر هايدجر إلى الرباط؟
يستدعي تفكيك تراجع الجامعة المغربية كمثال على بقية الجامعات العربية إعادة التركيب، أو الفصل والوصل بلغة الجابري، بمقومات إصلاح تجريبية ومقارنات موضوعية من أجل توجيه مآلها في السنوات والعقود المقبلة. فتعفّنُ السّمكة من الرأس بسبب خطايا سماسرة المعرفة وبيروقراطية الوزارة يؤدي لا محالة إلى مضاعفات المرض في بقية الجسم الفكري والتربوي والسياسي المغربي. ومما يزيد في الطين بلة، وقوف جلّ المثقفين المغاربة موقف المتفرج أمام تردّي الجامعة وهزالة البحث العلمي الوطني، بل انقسموا إلى فريقين: فريق دخل مرحلة الغياب الاختياري كمن يدفن رأسه في الرمل إسوة باستراتيجية النعامة. هم يفضلون الانزواء على أنفسهم ولا يحركون المياه الراكدة التي تسترخي لهجمة العفن الثقافي، فأصبحوا دعاة العقل المستقيل. وفريق آخر يغازل الدولة وكبار المخزنيين في حقبة الاسترزاق والرقص على الإيقاع المطلوب وموّال السلطوية وتعبئة الجماهير.
قال أحد الأصدقاء ” التقرّب زلفى من الرباط هو سبب إنحدار الجامعات المغربية.” فرددتُ قائلا: “إذا تسيّس البحث العلمي، خسر البحث العلمي وخسرت السياسة أيضا..!” وينبغي أن تستعيد الجامعة ماهيتها وغايتها بأن تكون فوق السياسة وتحيد عن هوى كل المؤسسات والتيارات والأحزاب والمصالح الضيقة. ولا يمكن لفلسفة الجامعة أن تحقّق إلاّ مؤسسةَ نقدٍ وتقييمٍ وتقويمٍ وابتكارٍ، تسائل الوضع القائم من أجل تركيب رؤى جديدة. ولا ينبغي أن تكون فلسفة الجامعة معيارية أو قومية تُجاري الخطاب السياسي في أي مجتمع. وهذه مسألة تستحضر طبيعة العلاقة بين المغاربة والعلم والتفكير النقدي، وحرية التفكير، والمسؤولية الروحية لقيم المجتمع.
لم يظهر بين مثقفي العالم حسب تقديري من هم أكثر قناعة بمركزية الجامعة في التطور من الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر (1889 – 1976) الذي تولّى رئاسة جامعة “فرايبور” في السادس من ماي عام 1933. وألقى خطابه الشهير The Self-Assertion of the German University “التوكيد الذاتي للجامعة الألمانية”، وهو نص فلسفي يتناول كنه العلاقة بين الجامعة والسياسة، ويتمسك بالعروة الوثقى بين مفهومين متوازيين: الحرية والعلم، وأن الجامعة تتولى القيادة الروحية للمجتمع. فهو يقول إنّ “إرادة ماهية الجامعة هي إرادة العلم كإرادة للرسالة الروحية التاريخية للشعب الألماني كشعب يعرف ذاته في دولته.”
عندما ينادي هايدجر بالحرية، فهو لا يترك الباب مفتوحا للتسيب أو العبثية، بل يتمسك بأن الحرية تعني “التقيد بقانون روح الشعب الذي يتبلور في أعمال الشعراء والمفكرين ورجال الدولة بكيفية نموذجية. تعني الحرية: هذا الالتزام المتقيد بإرادة الدولة. الحرية: المسؤولية إزاء مصير الشعب.” ويمكن أن يتخيل المرء كيف تتولى الجامعة دور المجدد في بلورة العلاقة الإيجابية بين الدولة والمجتمع، وأن تكريس الفلسفة هي نبراس التفاعل بين الجامعة والمجتمع والدولة. كتب في رسالة إلى صديقه ياسبر، قبل شهر من توليه رئاسة الجامعة، يقول “رغم أن كثيرا من الأمور غامضة وشائكة، فإني أحس أكثر فأكثر أننا ندخل إلى واقع جديد وأن زمنا جديدا قد حلَّ. يتوقف كل شيء على قدرتنا على أن نهيئ للفلسفة الموقع السليم وأن نجعلها تأخذ الكلمة.”
لا ينفك نجاح الجامعات وآفاق البحث العلمي عن السؤال الفلسفي وإن كان في بعض الأحيان محرجا لرجال السياسة. يقول هايدغر إذا “وضعنا أنفسنا تحت قوة بدء كينونتنا الروحية والتاريخية. هذا البدء هو انطلاق الفلسفة اليونانية. هنا نهض الإنسان الغربي لأول مرة انطلاقا من سمة شعبه وبمقتضى لغته إزاء الكائن في كليته وساءله وأدركه من حيث هو الكائن الذي هو.” ويوم تولي رئاسة جامعة فرايبور، جسد خطاب هايدجر تصوّرا شاملا بشأن علاقة الجامعة مع الفلسفة ومساهمتها في التنمية الذهنية والمعرفية قبل المادية. فقال إنّ “تأكيد الذات للجامعة الألمانية هو الإرادة الأساسية والمشتركة لجوهرها. نحن نعتبر الجامعة الألمانية بمثابة المدرسة “الثانوية” التي تقوم، على أسس علمية ومن خلال العلم، بتعليم وتأديب القادة والأوصياء على مصير الشعب الألماني. والإرادة لجوهر الجامعة الألمانية هي إرادة العلم كما الإرادة للمهمة الروحية التاريخية للشعب الألماني كشعب يعرف نفسه في حالته.” فلا ينبغي أن تنكمش صلاحية الجامعات في تكوين أجيال الطلبة بهدف تولي مهن عليا، بل أن تعمل بما يجسد المركز الروحي للشعب.
ويعارض هايدجر أن تكون المعرفة في خدمة المهن، بل العكس، فهو يقترح أن “تجسد المهن وتدير معرفة الشعب الأعلى والجوهرية بكلية كينونته. ليست هذه المعرفة بالنسبة لنا الاطلاع المريح على ماهيات وقيم في ذاتها، بل التهديد الأكثر جوهرية للكينونة وسط قوة الكائن.”
كانت نظرة هايدجر إلى دور الجامعة تفوق فكرة التخصص أو ربط الشهادات بسوق العمل، أو تخريج مهارات تقنية وإسقاط الثقافة والوعي عليها اعتباطيا. فهو يقول “لا ينبغي أن تزودكم العلوم بحقائق جاهزة وأن تروِّضكم للنجاح في الامتحانات بأقصر الطرق وأسهلها، بل ينبغي أن تتطلعوا إلى اللذة الحادة للتساؤل، يجب أن تتعرضوا للايقين البحث، أن تُرغَموا إلى قساوة القرار المتزن الجريء. في كل ذلك يجب أن تقتربوا بإلحاح من كل القوى التي تحدد عالما روحيا: الطبيعة والتاريخ، الشعر والتفكير العظيم، الاقتصاد والتقنية، هذه ليست مواد يجب أن تتكيفوا معها بشكل ما.”
عبّر هايدجر عن هذه الرؤى الجريئة في مرحلة كانت المثالية الألمانية تعزز مفهومها للعلم كنسق يحرر المعرفة من كل توجهات السلطة وإن تحت سلطة النازيين. ونادى بضرورة التسيير الذاتي للجامعة، قائلا “أن نضع نحن أنفسنا المهمة وأنّ نحدّد نحن أنفسنا طريق وكيفية تحقيقها.” وهذا ما مهد لنجاح أغلب الجامعات في ألمانيا والولايات المتحدة في مهمتها إزاء العلم والمجتمع فوق الاعتبارات السياسية المرحلية. ووصل تأثير الجامعة الألمانية ومدرسة فرانكفورت النقدية تحديدا إلى جل الجامعات الأمريكية من شيكاغو إلى هارفارد.
ثمة أكثر من عبرة يمكن استخلاصها من تجربة هايدجر على رأس جامعة ألمانية في حقبة عصيبة في الثلاثينات من القرن العشرين. ومما استرعى اهتمامه مدى التقارب أو التباعد بين التخصصات والحقول المعرفية بين العلوم الحقة والعلوم النسبية أو ما بينهما. في مقابلة مع مجلة “دير شبيغل” الأسبوعية نشرتها في الحادي والثلاثين من مايو 1976 بعد أيام قليلة من وفاته، يقول هايدجر إن “السّبب الحقيقي الذي دفعني إلى قبول منصب رئاسة الجامعة هو ذلك الذي كنت أعلنت عنه في محاضرتي الافتتاحيّة بجامعة فرايبورغ سنة 1929:”ماهي الميتافيزيقا؟” “أنّ مجالات العلوم منفصلة وبعيدة عن بعضها البعض والطريقة التي تحلل بها العلوم الأشياء تكون مختلفة عن سابقتها اختلافا شديدا في كل مرّة. أن تعدّد مثل هذه العلوم المشتّتة لا يجد الترابط المنطقي اليوم إلا في ذلك الذي يمنحه له التنظيم التقني للجامعات والكليات، وبين مثل هذه الاختصاصات ليس هناك سوى نقطة التقاء وحيدة، وهي الاستعمال العملي لها. وفي مقابل ذلك فإن تجذّر العلوم في جوهر وجودها شيء ميّت تماما.”
هل يمكن أن يكون هايدجر مغربيا لأسبوع أو شهر واحد، وهل يُسمح له بإلقاء محاضرة في جامعات المغرب؟ لا يبدو أن مقولة “الاستثناء المغربي” و”الخصوصية المغربية” تقبل أن تنفتح على هذه الثلاثية التركيبية بين الجامعة والفلسفة والحرية برؤيته النقدية المتماسكة. لكن، سيطول حبل التبرير ومنطق الذريعة في تطبيع الوهن التي آلت إليه الجامعة المغربية للبقاء خارج حركة التاريخ وتطور دور الجامعات في العالم. وكلما تراجع العلم تحت إمرة السياسة ونواهي السلطوية، طال بقاء جامعات المغرب خلف الشمس!
حان الوقت لنؤسس قسم “دراسات التخلف” في جامعاتنا، ونضيف علما جديدا خاصا بنا ضمن تطور العلوم الاجتماعية المعاصرة.
العلم ابن بيئته.. و”علم التخلف” أيضا ابن بيئته..!