نحن نعيش ثورة صناعيّة ثالثة
في مقالته الأخيرة، «الثورة ما بعد الإنسانيّة» (منشورات بلون)، يرى «لوك فيري» أن الآفاق التي تفتحتها أمامنا الابتكارات التكنولوجيّة والعلميّة مبهجة ومقلقة على حد السواء. فيما يلي حوار أجريناه مع هذا الفيلسوف، في وقتٍ أصبح فيه الذكاء الاصطناعيّ يُثير العديد من الأسئلة حول مستقبل الإنسان والكوكب.
هل يجب أن نشعر بالخوف من الابتكار العلمي التقني ومن الذكاء الاصطناعي؟
– لوك فيري: إن النزوع نحو ما بعد الإنسانيّة هو ما يطرح مشكلة على نحو خاص. فهذا تيار فكري فلسفي وعلمي يأتينا من الولايات المُتحدة. وأوروبا لم تتعرَّف عليه بعد بشكلٍ جيّد. فبفضل التمويلات الضخمة اليي تمنحها العديد من الجهات من ضمنها شركة «جوجل»، والتي تعدُّ بملايير الدولارات، اتخذ هذا التيار أهمِّيّة كبرى على الضفة الأخرى من المُحيط الأطلسي، وحرّرت حوله آلاف الإصدارات وأقيمت له العديد من الحلقات الدراسية، كما دارت بشأنه مناقشات ساخنة بين كبار المُفكِّرين أمثال فرانسيس فوكوياما، ميكاييل سانديل أو يورغن ها برماس. وهو يهدف أولاً إلى الانتقال من الطب العلاجي التقليدي -الذي ظلّ لآلاف السنين يرمي إلى غرض واضح وهو العلاج أي «إصلاح» الأجسام المُصابة أو المريضة- إلى نموذج «زيادة» أو تحسين الإمكانات الوراثية للجنس البشريّ. ومن هنا جاء الطموح إلى مكافحة الشيخوخة والزيادة في أمد الحياة لدى الإنسان، ليس فقط من خلال محاولة القضاء على الوفيات المُبكِّرة، كما دأب على ذلك الأطباء منذ القرن الثامن عشر، ولكن باستخدام التطبيب التكنولوجي والهندسة الوراثية والتهجين البشري/الآلي، لجعل البشر يعيشون لفترة أطول بكثير. والهدف النهائي من ذلك هو التوفيق بين الشباب والشيخوخة.
هل هي إذن محاولة للحصول في آنٍ واحد على قوة الشباب والحكمة التي لا تتأتَّى إلّا مع التقدُّم في العمر؟
– ل. ف.: هذه النقطة تعجبني كثيراً. فإذا افترضنا أننا سنتمكن يوماً ما من أن نعيش وقتاً أطول بكثير، إذن سيكون بمقدورنا أن نشهد ميلاد إنسانية ستكون شابة ومسنة في الآن نفسه، غنية بالعديد من التجارب التي يتيحها العيش المديد، ولكنها تتمتَّع بكامل الصحة الجسديّة والفكريّة. في الوقت الحالي، لا يوجد دليل فعلي على أن هذا سيكون ممكناً بالنسبة للبشر، على الرغم من أن بعض الباحثين في جامعة «روتشستر Rochester» قد نجحوا في إطالة عمر بعض الفئران المُعدَّلة وراثياً بنسبة 50 %. ومع ذلك، فمَنْ ذا الذي يستطيع أن يتنبأ بما ستكون عليه التقانة الطبية والتكنولوجيا المتناهية الصغر والذكاء الاصطناعيّ والجراحة الحيوية في القرن المُقبل؟ يجب علينا أن نستبق منذ الآن المشاكل الأخلاقيّة والسياسيّة والميتافيزيقيّة التي ستثيرها هذه المُقاربة الجديدة لمُمارسة الطب. وأضيف أن هناك جانباً آخر من المشروع الما بعد إنسانيّ يبدو مثيراً للاهتمام بالنسبة لي: فبعد الصراع ضد عدم المُساواة الاجتماعيّة المُرتبطة بقيام دولة الرفاه الاجتماعيّ، يعتزم أنصار التيار الما بعد إنسانيّ أن يصارعوا ضد اللاتكافؤات الطبيعيّة. فاليانصيب الجيني لا يرى ولا يحس، وهو غير أخلاقيّ وغير عادل، وإذا كانت الإرادة الحرّة للإنسان قادرة على تصحيح ذلك فسيكون ذلك نعمة عظيمة.
هل يمكن أن يكون فيه تهديد للبشريّة؟
– ل. ف.: في رأيي، يكمن الخطر في المُنافسة بين الأمم والجيوش، ثُمَّ بين الأسر، وهي منافسة قد تقودنا عن غير قصد إلى تغيير الجنس البشريّ. دعونا نأخذ مثالاً على ذلك: اخترعت شركة ألمانيّة رقاقة يمكن زرعها خلف شبكية العين لإعادة البصر للأشخاص الذين أصبحوا عميان بسبب المرض، ومع أن هؤلاء الأشخاص لم يستردوا قدرتهم الكاملة على الرؤية إلّا أن حياتهم قد تحسنت بشكلٍ كبير. تخيل أن هذه الشريحة تطوَّرت في المُستقبل حتى أصبحت حدة النظر لدينا تضاهي الصقور، فإن الجيوش سوف تسابق بعضها في صنع كتائب من الجنود «المعززين». وإذا قامت إحدى الأسر بتزويد طفلها بمثل هذه الأداة، فهناك احتمالٌ كبير أن الأسرة المُجاورة سترغب هي الأخرى في فعل الشيء نفسه. ولذلك يجب أن تكون الكلمة الفصل هي «التنظيم عبر القانون»، أن يُحَدّد بالضبط ما الذي سيسمح به وما الذي سيتمُّ حظره؟
على أيّة أسس يجب أن نختار بين هذه الإمكانات المُقدَّمة للبشريّة؟
– ل. ف.: بدايةً يجب أن نعرف بأنه لا مناص لنا من القيام بذلك، ولكن الأمر سيكون من الصعوبة بمكان لأسباب أجملها في ثلاثة: التكنولوجيّات الجديدة عالية التعقيد وفائقة السرعة، وهي تقنيات مُعولمة، ممّا يجعل التشريعات الوطنيّة بالية وغير فعّالة أمامها. لذلك فالثورة التكنولوجيّة ستؤدي إلى ارتفاع مهول في حجم السياحة الطبيّة. وأي تنظيم قانوني لا يشمل مداه التراب الأوروبي بالكامل، بل التراب العالميّ سيكون دون أيّة جدوى. وقد بدأت كلّ من المُفوضية الأوروبيّة ومجلس النواب الأوروبيّ في معالجة هذه المُشكلة، من خلال تقريرين مهمَّين عمّا بعد الإنسانيّة، ولكن ذلك إن لم يتم عبر التعاون مع الدول كلّ واحدة على حدة فإن شيئاً لن يتحقَّق. وعلى مستوى فرنسا، ينبغي أن يشكِّل التفكير في مسألة الابتكار واحدة من أهمّ القضايا السياسيّة. وكما لا يخفى عليكم، ففي الوقت الحالي، شركات الجافا (جوجل وآبل وأمازون وفيسبوك) كلّها شركات أميركيّة. أمّا الأوروبيّون فلم يكتشفوا المشاكل التي تفرضها الثورة الصناعيّة الثالثة إلّا متأخرين جدّاً. ولهذا ألَّفت هذا الكتاب: لأدق على مسامعهم ناقوس الخطر.
هل أنت إذن مثل بيير رابحي تدعو إلى شكل من أشكال «القناعة السعيدة»؟
– ل. ف.: النجدة، ساعدوني! لا مطلقاً. أنا مثل فولتير، أحب العالم الحديث أكثر من أي شيء آخر، وأحب الديموقراطيّة وجوانبها الحميدة. بيير رابحي هو بالتأكيد يتحلَّى بقدرٍ كبير من المسؤوليّة، ولكن تطبيق مبادئه سيكون بالنسبة لي مثل جلب الجحيم إلى هذه الأرض. وعلاوة على ذلك، أعتقد أن كلّ هذه الكراهية للحداثة هي إلى حدّ كبير مسألة موقف، وأنه لا أحد، وخاصة النساء، يريد حقّاً أن يعود إلى العصور الوسطى، إلى تلك الظلامية الحمقاء التي يدعو إليها أنصار البيئة، وخاصة الأصوليّون منهم. فعندما تتعرَّض لحادث أو يلم بك مرضٌ خطير، فإنك تشعر بالارتياح لأنك تملك حظوة العيش في بلد متقدِّم تتوفَّر داخله التكنولوجيا العالية والوسائل التي بإمكانها أن تنقذ حياتك. وعلى النقيض من هذه الكآبة المُنتشرة بين العديد من الناس، فإنني أزعم أن حضارتنا الأوروبيّة الحديثة أكثر جمالاً من أي وقتٍ مضى. فاليوم، تبدو أوروبا الحديثة والعلميّة والعلمانيّة والتي تنعم بالرخاء ثمينة وضرورية. وما سيدمِّرها ليس هو الليبرالية، بل بالعكس، ما سيودي بها هو الافتقار إلى المزيد من الليبراليّة. ولأننا عالقون في بركة وحل اسمها مناهضة الحداثة فإننا معرَّضون لأن نفقد كلّ شيء في الوقت الذي يحسدنا فيه العالَم أجمع على نموذج الحرّيّة الذي لدينا باستثناء بعض المُتعصبين.
هل نموذجنا هو النموذج الأصح؟
– ل. ف.: إن به قدراً من الغباء والابتذال. هل يقضي على القيم التقليديّة؟ هل يخلق عدم المُساواة؟ نعم، بالطبع، لكنه يترك لنا مع ذلك مساحات كبيرة لتوجيه النقد وللمقاومة، للعودة إلى الوراء وتصحيح أخطائنا، كما أنه يمنحنا الفرصة لنجد بأنفسنا معنى لحياتنا. فهل يكون هذا الحظ العظيم الذي نحظى به والذي هو فريد من نوعه على مستوى التاريخ وعلى مستوى الجغرافيا أيضاً، مخيفاً للدرجة التي تضطرنا إلى التنكُّر لما نحن عليه؟ الحقيقة هي أن ميلنا الطبيعيّ يتجه نحو التشاؤم تماماً مثل الوعي الشقي الذي يحب ألّا يحب شيئاً. على النقيض من التفاؤل، فإنه يعطي أجنحة وأسلوباً للتفكير السلبي. حيث أصبح هذا السلوك هو مرض هذا العصر الذي تكاثرت فيه أعداد المقالات التي تعلن مطولاً عن هزيمة الفكر، وتراجع الغرب، وانحسار المدنية، وانتحار القارة العجوز، والفظاعة الليبراليّة، وحماقات أخرى أسوأ من ذلك بكثير.
#لوك_فيري
ترجمة: حياة لغليمي
العنوان الأصلي والمصدر:
«Luc Ferry: «Nous vivons une troisième révolution industrielle
مجلة «Presse littéraire» العدد 13، الصفحات 30 – 31.
(*) مجلة الدوحة 04 مايو 2021