الزلزال السياسي و تكلفة التخلص من العدالة و التنمية
1٬560
1
0
الزلزال الذي ضرب انتخابيا حزب “العدالة والتنمية” حدث لا يستهان به، ذلك لا يخص المغرب وحده، بل له مدلوله جهويا ودوليا.. ويمكن الرجوع لهذه النقطة لاحقا.
لم يكن الحزب تنظيما عاديا منذ تأسيسه، وقد تشكل بعد مخاض طويل قام به مؤسسوه، وهم يعبرون المراحل، من التنظيمات الصغيرة المبعثرة، الى الجمعيات الدينية، وقاموا بعمل شاق ورهيب حتى خلقوا تنظيمهم السياسي. وطبعا عرفوا كيف يستغلون الظروف والأحداث لصالحهم، وبدوره هذا حديث طويل.
بدؤوا يلفتون الانتباه اليهم لما أصدروا جملة جرائد أسبوعية، ورغم انها لم تنجح على المستوى التجاري، ولكنها كانت بمثابة الاعلان عن التواجد مثل الرسالة والتجديد.
غير ان هؤلاء السياسيين الذين يتبنون الدين في اطروحاتهم السياسية، لهم طريقتهم في التواصل والاستقطاب، تبدأ من زملاء العمل والجيران، ولكن كذلك من جماعات المؤمنين بالمسجد ومحيطه، ويمكن ان ترى بعضهم الى الان يتجمعون قرب باب المسجد بعد الصلاة. ثم اعتمدوا بعد ذلك على الجمعيات الدينية، حيث ينشطون نادرا في بعض المؤسسات العمومية كدور الشباب، ولكن لهم كذلك مقراتهم الخاصة التي “يؤطرون” فيها الأعضاء والمنخرطين بشكل مغلق، ويضعون لذلك تنظيما ومواعيد صارمة..
وبعد نجاحهم الظاهر في الانتخابات سنتي 2011 و2016، دخلوا المؤسسات العمومية، كالجماعات المحلية والوزارات.. التي تعتبر اهم آلية لتشكيل الاتباع والناخبين من موقع تمكينهم من منافع.
لم يكن العدالة و التنمية حزبا عاديا. حاول اللعب على مشاعر الناس، واستغلال تدينهم الذي بقي عفويا ولبقا خلال قرون، يمارس الناس من خلاله عباداتهم، وينشرون سلوك الورع ما امكن بينهم، ولا يفرقون بين حياة التدين هاته، وعيشهم اليومي، بما يعنيه ذلك من القفز على كل التناقضات التي يمكن ان تحصل بين الفكر والواقع.
لكن مؤسسي الحزب لهم تصور آخر، وهو محاولتهم جر الدين الى مجال السياسة، وهذا ليس بجديد، فقد وقع لاول مرة بعد الهجرة الى المدينة، فتحول مشروع الدين من سلوك شخصي للتعبد والتقرب لله، إلى تأسيس “دولة المؤمنين” لها جيشها، هو الذي سيفتح مكة، ولها “مؤسساتها” في شكلها الأولي، من تجلياتها مراسلة ملوك. وحكام تلك المرحلة للدخول في الدين.
ويترسخ الأمر اكثر مع الخلفاء الراشدين، ثم مع الدولة الاموية بصفة نهائية، حيث ستصبح الدولة دينية..
لكن في الزمن الحالي، ومنذ” النهضة”، ظهر مفكرون كمحمد عبده، يرون ان الدين عمود لابد منه للدولة.
بعد ذلك ستظهر جماعة “الإخوان المسلمين” سنة 1928، وتصبح بمثابة حزب سياسي، بل اكثر من ذلك، حيث يمكن اعتبارها دولة داخل الدولة.. لها مؤسساتها، ويتعامل اعضاؤها فيما بينهم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. ولو ادى الأمر الى تنحية الخصوم حسب ما تتيحه الظروف.
وقد عرف هذا التنظيم مدا وجزرا حسب سياقات الأحداث. ولمن اطلع على تاريخ مصر، سيعرف ذلك بالضبط..
إذاً العدالة و التنمية جاء في هذا السياق، وكانت التنظيمات الدينية قد تقوت في العالم العربي لعدة أسباب وظروف (…). واصبح بعضها مهيأ لتسلم السلطة تحت يافطة الديمقراطية والانتخابات. بينما تنظيمات اخرى جنحت للعنف كما حدث بالشام، واصبح صعبا التفريق بين من يؤمن فعلا بالديمقراطية والتعددية والتناوب على السلطة، ومن يعتبر ذلك مجرد مرحلة للتمكّن، أي التمكن من الرقاب ومؤسسات الدولة. وبين من لا يؤمن مطلقا بالديمقراطية والانتخابات، ويرى “الحل” في مبايعة خليفة..
صال العدالة و التنمية كثيرا لمواجهة اليسار في المغرب، وخاصة بالجامعات، وحاول التسرب لبعض المؤسسات ك”المجالس العلمية”، ولكنه استغل بشناعة مواجهة “الخطة الوطنية للنهوض بالأسرة والطفل”، في زمن حكومة التناوب الاولى، ورغم كل الأراجيف التي استعمل، مرت المدونة بعد ذلك، لكن غرض لفت انتباه المحافظين وتوسيع عددهم كان قد تم.
باقي الأحداث معروفة، خاصة بعد حراك “20 فبراير”، وقد ركب الحزب على موجة المطالب بدهاء، وجعل منها شعارا لحملته الانتخابية.
وعند مراجعة ادبيات هذا الحزب، وما كان ينشره مؤسسوه، يظهر أنهم تبنوا خطاب “الدفاع عن الاسلام” ، وكان يمكن ان يشرعوا في وضع تأويلاتهم، لكنهم لم يتقووا بما يكفي، واهم انتخابات عندهم، حصلوا فيها على ما يقل عن مليون وثماني مائة الف مصوت. وبعد وصولهم بقوة للبرلمان وتسلم مفاتيح الوزارات، غيروا لهجتهم، وأصبح حرصهم منكبا على “التنمية”، لكنهم لم يحققوا شيئا مما وعدوا به، كرفع نسبة النمو الى 7٪.
ولهذا عندما يسقط تنظيم “” ديني” بواسطة الانتخابات، فالحدث غير عادي، إنه إعلان قوي عن نهاية” التمكن”، رغم ان الفئات المحافظة ماتزال موجودة، ورغم تواجد” تنظيمات”أخرى غير العدالة و التنمية لها مرجع ديني، لكنها إما ممنوعة أو هلامية، أو مجرد أشخاص تجمعهم رؤى وعواطف مشتركة.. وأليس حزب الاستقلال فيه نفحة من هذا القبيل؟ وقد استقطب انتخابيا جزء من الغاضبين على الحزب المنهزم.
أدى المغااربة الثمن غاليا مع حزب العدالة و التنمية خلال عشرية كاملة، أولا بسبب الخذلان، خذلوا من وضعوا ثقتهم فيهم، رغم أن عدد هؤلاء بقي في معدل مليون ونصف المليون من صوتوا لصالحهم. ثانيا بتأكيد كوادر الحزب ان مصالحهم الشخصية كأفراد وكتنظيم هي الاولى، وليس ما كانوا يدّعونه. ثم الخيبة التي حصلت للشباب بالخصوص مع هؤلاء الذين استغلوا زخم الحركات الاحتجاجية، وركبوا عليها. وعوض تحصين دور السياسي المنتخب، كرسوا التبعية، وتخلوا حتى عن بعض المكاسب البسيطة التي تحصلت لرئاسة الحكومة عندما كان على رأسها عبد الرحمان اليوسفي، رغم الفارق الدستوري وضعف الصلاحيات، فقد كان يسمى “رئيس الوزراء“. ولهذا لم يؤسس الحزب لأعرافٍ إيجابية جديدة، وأضاع عن المغاربة الكثير من الفرص. وأحس المغاربة أن هؤلاء المتبنين للإسلام السياسي حسب الصيغة المغربية، لا يختلفون عن الآخرين ممن سبقوهم، بل أفظع أحيانا، خاصة في الجانب الحقوقي، والتي همْ أصلا لا يعترفون بها كما هي عليه دوليا، وخاصة المتأصلة من “الانوار”، وظلوا يلعبون على الالفاظ للتمويه، عوض تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، فالمساواة بين الحنسين، عندهم اسمها “المناصفة”، اي ما له علاقة بالمسؤولية، كتحمل المراة نصف المهام في المواقع الإدارية، لكن جانب الحقوق عندهم مغيب. أي المساواة الحقيقية. ناهيك عن تسلم كبيرهم رئيس الحكومة الاسبق تعويضا لا يستحقه… ولم يجد المنافحون عنه ما يبررون به ذلك. وبالتالي انتفض المغاربة في وجه هذا الحزب، وحتى منتخبين سابقين من عامة الشعب كانوا ضمن صفوفهم، فضلوا التخلي عنهم والترشح مع أحزاب أخرى! وإن كان هذا كذلك يفضح مستوى التأطير الذي يقومون به، ونوع المصداقية التي لا يحضون بها حتى بين أعضاء الحزب. لم يتفق المغاربة علانية وبإصرار وترصد على التخلص من هؤلاء، ولكن بعد ظهور نتائج الانتخابات، تأكد ما لم يكن ينتطره أحد..
لكن ما تكلفة التخلص من العدالة و التنمية انتخابيا؟
كأنّ حالة الطوارئ غير المعلنة قامت هنا وهناك ,استعدت جل الأحزاب بكل ما تملك من طاقة. غير أن النتائج المعلن عنها، وفوز اليمين الانتخابي بأشكاله، سيقود إلى مأزق آخر. وكأنّ حال المغاربة هو تجريب العقوبات! هذا المشهد الحزبي اليميني الفائز، أنشئ في المغرب على مراحل، وتمت ولادته بشكل قيصري، ويمكن الرجوع إلى كل حالة على حدة. وبالتالي هذه الأحزاب ملأت على الشعب أفق الرؤية، وهي معروفة بممارستها كباقي أحزاب اليمين في العالم مع فارق يهم السياق الداخلي للمغرب. ولم يكن منها بد أمام الناخبين والتصويت بكثافة للانهاء مع تجربة فاشلة…رغم ان الحكومة السابقة كانت مشكلة من إئتلاف حزبي موسع، لكن المغاربة قرروا معاقبة حزب واحد، ظل يظهر في الواجهة، وباسمه تتخذ القرارات، وكانت جلها مجحفة وغير مستساغة، وأحيانا بليدة كتقليص الأجور من أجل المساهمة في صندوق التقاعد.. (يمكن الرجوع لجل القرارات السيئة للحكومة السابقة).
الفائزون الجدد
اعتمدت جل الأحزاب الفائزة بأكبر حصة من المصوتين على من يسمون بالأعيان. وذلك لضمان المقاعد، فلم يعد مرجحا ترشيح “مثقف” او شاب صاحب شواهد جامعية، لينجح! بحيث أن هؤلاء الأعيان ينسجون شبكة مصالح، ويستخدمون ثقلهم الاقتصادي المحلي، ويؤثرون بضغط يصل الى مستوى المساومة على إبقاء مصالح معينة او التدخل لحذفها. ويدخل في هذا الصدد، بعض مما يسمى “المجتمع” المدني الذي يتحصل على “المنح”، ومنه كذلك جمعيات مهنية في عدة قطاعات، يتم تعبئتها بقوة… ولهذا لا يجد المترشحون ضمن هذه الأحزاب أي حرج في الانتقال من حزب الى آخر، والحزب لا يهمه ذلك، بل احيانا تدخل الأحزاب في تنافس على استقطاب مرشح معين. والمصوتون “يختارون” الشخص وليس الحزب.. بل حتى الحزب لا يعرفون عنه شيئا سوى رمزه الانتخابي! يمكن وضع استثناء نسبي يهم حزب الاستقلال الذي له امتداد شعبي، رغم لجوئه بدوره للاعيان. كي ينقد الموقف، ويحصل على مقاعد. هذا يقتل السياسة، والتي ماتت من مدة، موتتها الاول بعد 2002 حينما وقع التخلي عن عبد الرحمان اليوسفي رغم احتلال حزبه الرتبة الاولى. والقتل الثاني للسياسة جاء بعد خيبة الامل من حزب العدالة و التنمية . ولهذا يتحملون مسؤولية تاريخية في هذه النكسة… فقد كان يقمع الاساتذة المتعاقدون وغيرهم امام انظار رئيس الحكومة وحتى باسمه معنويا. ولا يحرك ساكنا. هؤلاء المتحصلون على الاغلبية الآن، يمثلون ناد للأغنياء، ذوو المصالح في مراكمة الثروة. رغم بعض الفوارق بينهم، حيث منهم الفلاحون الكبار، ومنهم المصدرون لبعض المنتوجات المحلية، ومنهم تجار يقومون بدور الوساطة داخليا وخارجيا، أو مضاربون في مجال العقار.. هؤلاء لا يمارسون صناعة وطنية، لأنهم لا يقدرون عليها، يختارون الربح السهل. بينما الدولة فقط من يمكنها في وضعنا انجاز ذلك، لكنها تخلت عنه منذ إقالة حكومة عبد الله إبراهيم. وعليه لا يمكن ان ننتظر من الحكومة المقبلة الانتقال الى دولة الرعاية الاجتماعية، فيقع تعويض العاطلين، ومنح مساعدة مالية للاسر في الدخول المدرسي كما تفعل فرنسا. بل لا أنتظر شخصيا حتى توسيعهم لمجال الضمان الاجتماعي لنصل الى مستوى اسبانيا مثلا. وطبعا أي تحسين للعيش يتطلب تنمية اقتصادية، وكذلك إصلاحا ضريبيا عادلا وصارما، ولا أظن ان أعضاء “نادي الأغنياء” هؤلاء يمكن أن يفرطوا في مصالحهم. بل يمكن ان يتسببوا في موجة احتجاجات عندما ينزلون قرارات تضر أكثر بأغلبية المغاربة. فماذا سيفعلون مع المديونية المرتفعة، وقد وصلت إلى 90٪ من الناتج الداخلي الخام؟