تنبيه عبر قصة ألمانية !
سنة 1871 تحقق حلم العديد من “الجرمانيين” بعدما توحدت لأول مرة في التاريخ شعوب كثيرة ناطقة بالألمانية تحت لواء الدولة الوطنية الألمانية الحديثة. الطبقات التي قادت هذا الحلم القديم بالوحدة هي الفئات العسكرية والنبلاء الذين يبخسون فلسفة وفكر الأنوار المنبثق في ألمانيا قرنا على الأقل قبل الوحدة والذي مثله حينها أدباء وفلاسفة مغرقين في الروحانيات وسبر أغوار الذات البشرية والتدين واليوتوبيا والرومانسية المتحررة من السياسة الحديثة ومن نظريات السلطة عموماً (قارب العديد منهم السياسة عبر رؤية مخالفة لنظريات الحكم التي ظهرت آنذاك في أوربا ماكيافيل ثم هوبز ولوك ومونتيسكيو..). تمثل هذا التيار الألماني في كل من كانط، ليبنيز، مندلسون، شيلينك، كوته وغيرهم. كان هؤلاء ينظرون للسياسيين نظرة احتقار كونهم منشغلين بالحروب التي لا توحد سوى العسكر والنظام العسكري وتقصي المثقفين وصوت الروح من الوجود السياسي، كما كان المجتمع العسكري ينظر لفئة “الكولتورا Kultur” نظرة ازدراء كونها مسرفة في الذاتية ونقاش مشاكل النفس والوجدان.
بعد توحيد ألمانيا عبر حرب طاحنة مع فرنسا، انتبهت البورجوازية وغيرها من الفئات (بما فيها فئة المثقفين) أن الحرب الوطنية (nation à nation) يمكن أن تكون مجدية وإيجابية : لقد وحدت الألمان قبل أي وقت مضى، وصالحت بين القبائل والمدن والقصور وأطراف الصراع الداخلي. حينها انطلقت مثل النار وسط الغابة وطنية مثالية تكدست لقرون خلت في ثنايا الخطابات السياسية لمختلف الفئات.
ثم دخلت البورجوازية والمثقفون السياسة من باب الوطنية و”إرادة القوة” (ربما وجدت الفئات الشعبية كما البورجوازية في الفيلسوف نيتشه تعبيرا عن الخروج التام للثقافة من المثالية والباطنية نحو السياسة والسلطة، رغم كون كتابات نيتشه وتحقيقاته وأبحاثه بعيدة كل البعد عن هذا الفهم القاتل وقريبة من الباطنية والقيم العليا التي كتب عنها دوستوفسكي قبله).
الجميع يعلم مآل تحالف الفئات المختلفة في ألمانيا وفي أوربا الوطنيات عموما. تحالفات لم تتحقق إلا على ظهر الملايين ممن ستسحقهم الوطنية سحقا لكونهم مختلفين دينيا أو ثقافيا أو اقتصاديا واجتماعيا. في لحظات معينة كانت تلبس الوطنية العنصرية غطاء الدفاع عن وحدة البلاد من التفكك ومن خطر الاستعمار (سيدافع ماكس فيبر إبان الحرب العالمية الأولى عن حق ألمانيا خوض الحرب دفاعا ليس فقط عن الشرف الألماني ولكن على طبيعة الحياة بذاتها، هذه الحياة الألمانية التي سيقول عنها في نفس السنة وفي الضفة الأخرى من نهر الرين إيميل دوركايم أنها متكبرة ومتعجرفة وغير قابلة بمنطق الحوار بين الأمم ـ دوركايم الذي لم ير تصاعد وطنية فيشي النازية في فرنسا وهو عالم الاجتماع اليهودي الذي رأى ابنه يموت في الحرب من أجل الوطن الفرنسي).
قليل هم المثقفون الذين انتبهوا لقدوم الإعصار الوطني الذي حول أوربا لأكبر مقبرة في تاريخ البشرية وطبعها (ربما لقرون كثيرة معاصرة وقادمة) بطابع العنف والاستعمار والسياسة العنصرية في الداخل وفي الخارج ـ سياسة الحدود الوطنية وسياسة الاستعلاء والهيمنة. قليل هم المثقفون الذين رغم كل أخطائهم انتبهوا مثل دوستوفسكي وتولستوي في روسيا ثم ماركس في أوربا الغربية إلى مأساة “الوطنيات” القاتلة. انتبهوا فقط لما سبقهم إليه أنبياء قبل عصر الحدود والجيوش والسجون فحاولوا بعث روح الكونية بطرائق تعرضت لعنف سياسي وفكري شديد رغم لحظات الانبعاث مع بنيامين وهيدغر (رغم كل ما يقال) وميشيل فوكو…أو في لحظات سياسية لم تصل بعد إلى درجة فهم وتجريب عميق كما وقع في الثورة السورية أو العديد من التجارب بأمريكا اللاتينية ولحظات تحرر أخرى عبر العالم.
يبدو أن المأساة لم تقف عند الرجل الأبيض : لقد زرعت زرعا في نخب الجنوب وفي أحزابها البعثية ونظم حكمها القائمة على ترجمة تاريخ الحركات المناهضة للإستعمار إلى خطاب وطنية تواجه كل مطلب كرامة بالتخوين وبالإقصاء وبشعار فارغ حول “الوطن” والحرب مع الخارج الذي صنعهم ويصنعون هيمنته كل يوم.
#منتصر_ساخي