الفوز على بلجيكا ينسي المغاربة مشاكلهم “مؤقتا”!
عندما سجل صابيري وأبوخلال هدفي المغرب أمام بلجيكا في مونديال قطر، انطلقت الاحتفالات في البيوت والمقاهي والشوارع المغربية، وتناسى الجميع، للحظة قد تطول، غلاء الأسعار وحكومة عزيز أخنوش التي ظلت محل انتقاد في الشهور الأخيرة، فقد ارتفع اسم المغرب إلى الواجهة، وحتى من يريد الآن الحديث في السياسة او الاقتصاد فحديثه غير مسموع، فكل شيء يتأجل عندما يكون منتخب المغرب منتصرا.
في كرة القدم، وخصوصا خلال كأس العالم، نستطيع استفزاز مشاعر شعب بأكمله واستنفار طاقته ووطنيته، ويكفي أن نشاهد الحماس الذي ساد ملعب “الثمامة” بالدوحة اليوم، وكيف كانت الفرحة تتفجر من وجوه المتفرجين في محيط الملعب والمترو والباصات، لنقف على القوة السحرية لكرة القدم وتأثيرها على اهتمامات الشعوب.
عندما خرج سعيد، وهو مغربي مقيم بهولندا، من وطنه قبل سنوات، اقسم ألا يعود إلى بلد اكتوى فيه بنار البطالة والعوز، لكن إلى جانبي، في المدرج رقم 120 بملعب “الثمامة”، أجهش بالبكاء بعد الهدف الثاني لأبوخلال في شباك كورتوا وهو ملتحف بالعلم المغربي صائحا “الله عليك يا مغرب”. وفي تلك اللحظة نسي سعيد واقعا مرا عاشه قبل سنوات، وأصبح حينها أمام منتخب رفع إسم بلده عاليا وسط الأمم، وبإمكانه الافتخار به وحتى الصراخ “أنا مغربي وأفتخر”.
الطقوس المحيطة بالرياضة تجعلها شديدة الارتباط بالقيم الرمزية، فلدى بدء المباريات، ولدى منح الميداليات، يُعزف النشيد الوطني وترفع الراية، إنه تمرين يجعل الأمر مرتبطا بشرف الأمة ومجسدا للسيادة، والمغاربة لم ينسوا خسارة سابقة أمام بلجيكا بمونديال 1994 لم تكن مستحقة، ومباراة الدوحة اليوم هي رد لاعتبار خُدش قبل 28 سنة.
في ملعب “الثمامة”، كان الأمر أشبه بمعزوفة مغربية تُنشد في أرض الدوحة، فقد احتلت المدرجات أجمل احتلال، وتجملت باللون الأحمر، وعندما ارتفع النشيد الوطني ردده حوالي 30 ألف مغربي بحماس كبير، رافعين أعلامهم ومتشبثين بأقمصتهم التي اختفت من الأسواق والمتاجر المغربية، فمنتخب المغرب هو أكبر حزب بالمغرب، وبإمكانه ملء الملاعب حتى آخر مقاعدها، وإخراج الجماهير عن بكرة أبيها إلى الشوارع احتفالا بنصر هو نصر للأمة أولا، في حين أن أكبر حزب سياسي بالمغرب لن ينجح في ملء قاعة صغيرة إن تُرك الأمر اختياريا للمواطن، بدليل أن المواطن المغربي يجهل أسماء أغلب وزراء حكومة بلده، لكن يعرف لائحة لاعبي المغرب، وحتى أولئك الذين لم يتم استدعاؤهم للمونديال.
ويستمر الحماس خارج الملعب، ففي الأزقة بالدوحة والمغرب والعواصم الأوروبية، آلاف من المغاربة يتظاهرون حاملين العلم الوطني وهاتفين بالنصر باسم الشعب والدولة والأمة. إنها فرحة مشتركة بين أفراد الشعب والسلطة، بل إن هذه الأخيرة كما قد تحترس من فلتان الأمور من بين يديها في البطولات المحلية، لا تتوانى في الانخراط في الاحتفالات فاسحة المجال للجماهير لاحتلال الشوارع بدون ترخيص، ومنظمة مرور المشجعين الذين سيهتفون بالوطن حتى ساعات متأخرة.
اليوم نجح المغرب في تحقيق فوزه الثالث في تاريخ مشاركاته في المونديال بعد البرتغال سنة 1986 واسكتلندا سنة 1998، وفي كل مرة كان يفوز، كان الأمر إيذانا بانطلاق فرحة تغطي على كل الاستعصاءات الآنية، وسط ترقب من الشعب للاستقبال الملكي الدي سيخصص للاعبين في حالة تحقيق إنجاز كبير وقيمة المنحة المالية التي سيتوصل بها كل فرد، فكرة القدم، والرياضة بشكل عام، هي التي تمنح بلدا حق التفوق على دول تفوقه نموا وتطورا، وهي التي تجعلك تشعر بأن شرف الأمة رهين هدف أو فوز.
إن كرة القدم كانت في أحايين كثيرة وراء خلق حب الوطن، بل تأكد أنه بالملاعب، وليس بالاجتماعات السياسية، يطفو بجلاء الشعور الوطني. ومن الإجحاف أن يقارن الرياضيون برجال الأعمال والسياسة، فالرياضي يحمل ألوان بلاده سفيرا بدون أوراق اعتماد، بل يُطلب منه الإحساس بالمسؤولية الملقاة عليه والدفاع عن اسم بلده والقيام بالمستحيل للفوز بأكبر قدر من الميداليات، في حين أن السياسي والاقتصادي قد لا يفرض عليهما ما يفرض على الرياضي، ولا يلقيان اللوم الشديد كالذي يلقاه الرياضي بعد عودته خائبا من منافسة رياضية دولية.
مطلع الشهر المقبل، سيكون موعد المباراة الثالثة بين المغرب وكندا، وقد يتحقق حينها التأهل إلى الدور الثاني لثاني مرة في تاريخ المغرب منذ 36 سنة، ومجددا سيعيش الجميع لحظات ربما أروع، لا يصنعها الساسة، بل لاعبو كرة القدم، وذاك هو السحر الخفي للمستديرة.
بقلم الدكتور #منصف_اليازغي