الطاعون و السلطة
[ad_1]
يعتبر الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، في كتابه “المراقبة والمعاقبة”، أن أعلى درجةٍ يمكن أن تصل إليها السلطة؛ هي عندما يصبح الناس الخاضعون لها يتوهمون أنهم أحرار مخيّرون، وهذا النوع من السلطة لا يحتاج إلى تعاقد اجتماعي؛ بقدر ما يحتاج إلى إطار عام تتحرّك من خلاله السلطة، بحيث تبدو أهدافها متفقةً مع الاختيارات القسرية للأفراد، كما هو الحال في زمن الأوبئة والكوارث. استحضار فوكو اليوم؛ في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من ثلثي سكان العالم محتجزين اختياريا، وقسريا، داخل بيوتهم؛ ليس ترفا فكريا، أو استعراضا لنظرياتٍ فلسفيةٍ بقصد تزجية الوقت، وتكسير الرتابة والملل، وإنما لغاية مهمة ومفيدة لفهم ما يجري، وما يمكن أن يترتب على ما يحدث في حياتنا اليوم من انعكاسات، لا نعرف شكلها على مستقبلنا، وسلوكنا، وحرياتنا. فقد كان هذا الفيلسوف الفرنسي سباقا إلى الاشتغال على تاريخ السجون والعقاب؛ من خلال عقوبة العزل والإبعاد، لأنه كان يعتبر أن كتابة تاريخ تلك الفضاءات المعزولة هي، في الوقت نفسه، تأريخ للسلطة وتشكلها داخل المجتمع. لأن فكرة “التأديب” التي يقوم عليها وجود المؤسسات السجنية، أو فضاءات العزل بصفة عامة، هدفها التنميط الأخلاقي والاجتماعي القسري للأفراد المعاقبين، الذين لا يستوفون معاييرها النمطية المتعارف عليها، وجعلهم ينصاعون لقيم المجتمع، ويقبلونها بدون مناقشة. ويركز فوكو، في دراسته، على البنيان الهندسي للسجون، حيث يوجد كثير من أبراج المراقبة، لتوهم السجين بأنه مراقب دائما، وهو ما يؤدي إلى انضباطه لمراقبيه، فالمراقبة في كتابه الذي يحيل على الاسم نفسه “المراقبة والعقاب” تتحول إلى نوع من العقاب الذي يؤدّي إلى الانضباط. وعندما يُسقِط فكرته على المجتمع، يصل فوكو إلى النتيجة نفسها التي مفادها أن المراقبة تؤدي بالفرد إلى أن يكون منضبطا للسلطة المفترضة التي تراقبه، حتى لو كانت هذه السلطة وهميةً، أو غير مرئية، أو رمزية مثل إشارات المرور. وفي محاضراته التي استعرض فيها تاريخ العزل، خصوصا في زمن “الطاعون الأسود” الذي ضرب أوروبا في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، يصف فوكو كيف تحوّلت معازل “الحجر الصحي” إلى أماكن للنبذ والإلغاء الاجتماعي، وتحوّل الطاعون نفسه من وباء خطير إلى أداة في يد السلطة، لإعادة بسط هيمنتها على المجتمع، وفرض وجودها الذي توغل إلى داخل بيوت الناس وذواتهم، يراقبهم ويحسب عليهم أنفاسهم. ففي حالة الأوبئة، مثل الطاعون، تعيد السلطة تشكيل فضاء نفوذها من خلال التدابير الصحية والأمنية التي تفرضها، بحيث تحدّ من حركة الناس، وتحتكر الفضاء العام الذي يسمح لها بمراقبةٍ واسعةٍ لفرض رقابتها على المجتمع والأفراد. ويتحوّل الطاعون إلى “حلم سياسي” للسلطة القاهرة الطامحة دوما إلى التحكّم في الأفراد، لأنه يسمح لها بالتغلغل في أدق تفاصيل حياتهم. يقول فوكو في “المراقبة والعقاب”: “إن المدينة المنكوبة التي يصيبها وباء الطاعون هي النموذج الأمثل الذي تحلم به السلطة لتوسيع هيمنتها. وإذا كان أهل الحقوق والقانون يحلمون بالحالة الطبيعية والمنطقية لاحترام القانون، فإن أهل السلطة يحلمون بقدوم وباء الطاعون لفرض السيطرة التامة على الناس”. فالسلطة القاهرة، كما يعرّفها فوكو، تستغل خوف الناس، للتغلغل في أدقّ تفاصيل حياتهم. واليوم أصبح هذا التغلغل أكثر خطورة، لأن مراقبة المدن المنكوبة التي كانت تتم في العصور القديمة بواسطة المراقبة العينية، والتقارير الشفاهية والمكتوبة، باتت اليوم تتم عن طريق مراقبة بُعدية، بواسطة التقنيات الإلكترونية والرقمية التي أصبحت جزءا من حياتنا اليومية. كما تحولت السلطة التي كانت تقوم على الإكراه والقسوة في المجتمعات القديمة؛ إلى قوة تقوم على الرقابة والضبط في عصرنا الحالي، فكيف سيكون شكل السلطة الجديدة التي ستفرزها أزمة وباء كورونا وتبعاتها؟ تفرض نظرية فوكو عن التحكّم والمراقبة علينا اليوم نفسها بقوة، لأن حالة الهلع التي أصابتنا جميعا عزّزت شعورنا القوي بالحاجة إلى الدولة، وإلى مراقبة السلطة، حتى لو طاولت تلك المراقبة حرياتنا الأساسية، مثل الحركة أو حرياتنا المقدسة، مثل حرية ممارسة الطقوس الدينية. وفي دول سلطوية كثيرة، استغلت الحكومات حالة الخوف الجماعي لتعطيل القوانين، وفرض حالة استثناء تسمح لها باتخاذ تدابير لا تراعي حرية الناس وكرامتهم، بدعوى صيانة صحتهم والحفاظ على حياتهم. وفي الدول الديمقراطية، بدأت أصواتٌ ترتفع محذّرة من تغوّل السلطة واستفرادها بالقرارات، مستغلة الخوف الجماعي الذي تزيد بعض وسائل الإعلام من تضخيمه والمبالغة فيه، وترهيب الناس من مناقشته. ثمّة تخوف مشروع من أن تستغل بعض الحكومات في الأنظمة السلطوية حالة الذعر والهلع التي تسبب فيها وباء كورونا، لفرض ممارساتٍ سلطويةٍ بغرض الضبط والمراقبة، تبدأ بالقيود على حرية الحركة لتنتقل إلى تقييد الحرية نفسها. لقد رأينا كيف استغلت الحكومات، حتى في الدول الديمقراطية، مبرّر الإرهاب للإجهاز على الحريات، ولا يعرف أحد اليوم كيف يفكر عقل السلطة لاستثمار التدابير الاستثنائية التي أملاها التصدّي للوباء؛ لفرض مزيد من الضبط والمراقبة على المجتمع والأفراد مستقبلا. ماذا لو تعوّدنا على العيش في “حالة الاستثناء” التي يفرضها علينا الخوف من الاندثار؟ ماذا لو أصبح “الأخ الكبير” يراقبنا في أدقّ تفاصيل حياتنا، كما كان يحدث في رواية “1984” لجورج أورويل؟
بقلم علي أنوزلا
العربي الجديد
[ad_2]
Ahosti